أولويات إعادة الإعمار في لبنان بعد الحرب والحاجة المُلِحّة لتعافٍ عادل وخاضع للمساءلة — مذكرة صادرة عن تحالف أراب واتش

في أعقاب العدوان الإسرائيلي على لبنان خلال عامي 2024–2025، أعادت مسألة إعادة الإعمار فرض نفسها كأولوية وطنية مُلحّة. إلا أن هذا الإعمار لا يشبه ما عرفه البلد سابقًا. بخلاف لحظات الأزمات السابقة—كما بعد حرب عام 2006 أو انفجار مرفأ بيروت عام 2020—تتسم اللحظة الراهنة بتلاقي دمار عسكري واسع، وانهيار مالي شامل، وشلل مؤسسي، وتقلبات جيوسياسية عميقة. بالنسبة للبنان، فإن إعادة الإعمار ليست مجرد استبدال للبنية التحتية المدمرة؛ بل هي محاولة لشق طريق وسط استحالة التعافي في ظل شبه انعدام لشرعية الدولة أو حوكمة شاملة أو قدرة مالية حقيقية.
بصفتنا تحالف أراب واتش، وهو شبكة إقليمية ملتزمة بمراقبة المؤسسات المالية الدولية وتعزيز السياسات المالية العادلة في المنطقة العربية، نؤكد أن الإعمار يجب ألا يُفهم فقط كفعل مادي، بل كاختبار للإرادة السياسية، والمساءلة العامة، والعدالة الاقتصادية. ومن هذا المنطلق، انخرطنا بشكل مستمر مع موظفي وأطراف المؤسسات المالية الدولية (مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) بشأن مسار الإصلاحات في لبنان.
أبرزت مناقشاتنا الأخيرة مدى استمرار ضيق الأفق المالي في لبنان. فعلى الرغم من تراجع التضخم إلى أرقام أحادية، إلا أن تكاليف المعيشة لا تزال في ارتفاع، ولم يوفر قانون موازنة 2025، رغم توسع حجمه إلى 5 مليارات دولار، إلا هامشًا ضئيلًا للمناورة. ولا يزال لبنان محرومًا من آليات الإقراض التفضيلية، فيما يواصل مصرف لبنان تسجيل خسائر ضخمة، مع تحقيق تقدم هامشي فقط في إصلاح قانون السرية المصرفية منذ عام 2022.
وقد أدى اندلاع الحرب إلى تفاقم الاحتياجات التمويلية الخارجية للبنان بشكل كبير. وبينما يصرّ صندوق النقد الدولي على ضرورة أن يتم تمويل الإعمار عبر مصادر خارجية ومنفصلًا عن مشروطيات الإصلاح، تبقى الحاجة الماسة قائمة لدعم فوري وغير مشروط للتعافي، مع تخطيط ومشاركة شاملة على المدى البعيد.
دور تحالف أراب واتش يتمثل في مسارين متلازمين: ضمان الشفافية والعدالة في كيفية تمويل الإعمار وإدارته، والدفع باتجاه إطار عمل اجتماعي عادل يقاوم التقشف، الخصخصة، وهيمنة النخب. وهذه المذكرة تعبر عن التزامنا بإثراء النقاش النقدي حول الخيارات القانونية والمؤسساتية والاقتصادية المقبلة.
أولًا: إعادة بناء لبنان بعد الحرب — لماذا الرهانات اليوم أعلى من أي وقت مضى
أدى العدوان الإسرائيلي على لبنان خلال عامي 2024–2025 إلى تدمير كارثي للمدن والقرى الجنوبية، وللمناطق الطرفية في بيروت الكبرى، مع استمرار الانتهاكات للهدنة حتى اليوم.
غير أن الواقع اللبناني الحالي—المتسم بانهيار سياسي وفشل مالي وتداعي في البنى التحتية وتآكل مؤسساتي—يجعل من هذه اللحظة مختلفة جذريًا عن تجارب الإعمار السابقة. فبالرغم من تقديرات البنك الدولي الأولية التي وضعت الخسائر عند 8.5 مليارات دولار، إلا أن تقديرات أخرى تضع الأضرار بثلاثة أضعاف هذا الرقم. ومع ذلك، فإن ما وراء الأنقاض يكمن أزمة أعمق: تفكك اجتماعي، تآكل للثقة العامة، ونزاع حول دور الدولة في إدارة الحياة الاقتصادية والمكانية.
إن تحدي الإعمار لا يقتصر على الترميم التقني والهندسي؛ بل يرتبط بكيفية تصور الدولة لالتزاماتها تجاه مواطنيها. ويؤكد تحالف أراب واتش أن غياب التحولات البنيوية في الحوكمة والمشاركة والتمويل يهدد بإعادة إنتاج مظالم قديمة: خصخصة الفضاء العام، تهجير الفئات الفقيرة، تهميش المجتمعات المستضعفة، التدمير البيئي، وزيادة مخاطر الفساد وسوء إدارة المال العام. ما هو مطلوب هو رؤية للإعمار تتمحور حول العدالة، الكرامة، والحق في البقاء. في هذا السياق، الرهانات وجودية: إما أن يعيد لبنان بناء مشاعه، أو يعيد بناء البنية التحتية لانهياره القادم.
ثانيًا: حدود قانون الإعمار الحالي
يُقدَّم قانون الإعمار الصادر في ديسمبر 2024 كاستجابة عاجلة لدمار الحرب. إلا أنه، كما وثقت المفكرة القانونية وخبراء آخرون، يكاد ينسخ قانون 263 لعام 2014 الذي نظم الإعمار بعد حرب 2006. هذا التدوير التشريعي يعكس فشلًا أوسع في التعامل مع تعقيدات الأزمة الراهنة. إذ يركز القانون تركيزًا ضيقًا على المباني، مانحًا مالكي العقارات استثناءات استثنائية لإعادة البناء، بينما يستثني القاطنين في المستوطنات غير النظامية والمستأجرين وسكان الأراضي العامة والجماعية—وهم من الفئات الأكثر تضررًا.
علاوة على ذلك، يتجاهل القانون احتياجات إعادة تنظيم البنية التحتية العامة، وضمانات السكن الميسر، وضوابط مواجهة المضاربة العقارية. وقد أثبتت التجارب السابقة أن مثل هذه القوانين رسخت مصالح النخب، وشرعنت النفوذ غير الرسمي، وعمّقت الانقسامات الحضرية والريفية.
من منظور تحالف أراب واتش، لا يقتصر القلق على القانون الوطني نفسه، بل يمتد إلى خطر أن تعتمد المؤسسات المالية الدولية هذا الإطار الإقصائي في تمويلها وإدارتها لعملية الإعمار. لذلك، نؤكد أن على المؤسسات المالية الدولية أن تشترط دعمها على تطوير أطر إعادة إعمار عادلة، شاملة، وتشاركية—تسعى إلى إصلاح جذور الأزمة بدلًا من إعادة إنتاجها.
ثالثًا: المساءلة المؤسسية ودور المؤسسات المالية الدولية في إعادة الإعمار
مع استعداد المانحين الدوليين والمؤسسات المالية الدولية لحشد التمويل لتعافي لبنان، من الضروري وضع دورهم ضمن السياق التاريخي لفشل تجارب الإعمار السابقة. فقد أعطت عمليات الإعمار بقيادة المؤسسات المالية الدولية الأولوية للسرعة على حساب العدالة، للانضباط المالي على حساب الشمولية، ولتعويض رأس المال على حساب رفاهية المجتمع.
ويبرز عبر تواصل تحالف أراب واتش مع صندوق النقد الدولي ومؤسسات أخرى خطر رئيسي: أن يؤدي التمويل الخارجي—لا سيما في ظل شلل الدولة—إلى تجاوز العمليات الديمقراطية وتعزيز سلطات النخب السياسية والمالية.
علينا مقاومة النمط السائد الذي يعتمد على الفاعلين غير الرسميين والمنظمات المرتبطة بالأحزاب والشبكات الزبائنية لتقديم الخدمات والتعويضات. بدلاً من ذلك، يجب الضغط على المؤسسات المالية الدولية للاستثمار المباشر في المؤسسات العامة من خلال آليات شفافة ورقابية ومبنية على المشاركة.
وكما يؤكد تحالف أراب واتش، لا يكفي أن يتم فصل الإعمار عن الإصلاحات: بل يجب أن يكون الإعمار نفسه فرصة لإعادة التفكير في الإصلاح، قائمًا على العدالة والمساءلة المؤسسية. يجب ربط كل تمويل بالتزامات واضحة لضمان العدالة المالية، لا التقشف، وتنمية المؤسسات، لا حلول تكنوقراطية معزولة.
رابعًا: تنوع المناطق المتضررة والحاجة إلى مقاربات تفاضلية للتعافي
تشمل المناطق المتضررة من الحرب طيفًا واسعًا من التكوينات الجغرافية والاجتماعية والقانونية. واعتماد مقاربة موحدة—تُفضّل ملاك العقارات والمناطق المنظمة رسميًا—يهدد بتعميق التهميش القائم.
في مدن مثل بعلبك في البقاع والنبطية في الجنوب تنتشر أحياء تراثية وتجمعات سكنية تقليدية لا تتلاءم مع المخططات العمرانية الحالية. كما أن المستوطنات غير النظامية في صور وصيدا وبيروت تضم مزيجًا معقدًا من الملكيات العامة والخاصة، وتستضيف عشرات الآلاف من النازحين والمقيمين ذوي الدخل المحدود.
لذلك، يؤكد تحالف أراب واتش أن التعافي يجب أن يستند إلى مقاربة تفاضلية تأخذ خصوصيات كل منطقة بالاعتبار، وترتكز على التشاور المجتمعي والتخطيط المحلي. كما يجب كسر الثنائية التقليدية بين الريف والمدينة في السياسات، والاعتراف بالترابط الحيوي بين الأطراف والمراكز.
خامسًا: الإعمار كعملية اجتماعية واقتصادية وبيئية
لم تدمر الحرب المباني فحسب، بل دمرت أيضًا النظم الاقتصادية، وسممت النظم البيئية، وأعاقت شبكات الإمداد الحيوي. تعرضت مساحات زراعية شاسعة في الجنوب والبقاع للتلوث بالفسفور الأبيض، مما أدى إلى تدمير سبل العيش الزراعية لسنوات قادمة. كما دُمّرت الأسواق والمراكز الصحية والبنى التحتية المجتمعية.وفي ظل أزمة مالية عميقة أصلًا، باتت الحياة العامة أكثر هشاشة.
يرى تحالف أراب واتش أن إعادة الإعمار لا بد أن تتجاوز المباني الخرسانية لتشكل استراتيجية متكاملة لإحياء الاقتصاد المحلي وإصلاح النظام البيئي، تشمل دعم التعاونيات الزراعية، وإعادة التشجير، وإزالة التلوث، وإصلاح الخدمات العامة.
يجب ألا يتم الفصل بين الإصلاح المادي والإصلاح الاجتماعي. وإذا فشلت المؤسسات الدولية والدولة اللبنانية في إدراك هذا الترابط، فإن الإعمار سيتحول إلى مجرد تجميل مؤقت فوق جرح اجتماعي عميق.
سادسًا: ضمان الحق في العودة والحق في البقاء
يشكل التهجير الدائم خطرًا حقيقيًا في مرحلة ما بعد الحرب. آلاف العائلات لا تزال غير قادرة على العودة بسبب تدمير المنازل، أو ارتفاع الإيجارات، أو غياب الضمانات القانونية.
الإطار القانوني الحالي يكرس حقوق المالكين، بينما يقصي المستأجرين وسكان المناطق غير النظامية. كما أظهرت تجارب ما بعد 2007 في نهر البارد، وبعد انفجار مرفأ بيروت عام 2020، كيف يمكن أن يتحول الإعمار إلى ذريعة للتهجير القسري.
لذلك، يدعو تحالف أراب واتش إلى أن تتضمن خطط الإعمار ضمانات فعلية للعودة الكريمة، وتأمين السكن الميسر وغير التمييزي، مع آليات لضبط الإيجارات، وتقديم دعم سكني للأسر الأكثر هشاشة.
يجب استعادة الحق الجماعي في المدينة بوصفه حقًا عامًا، وليس امتيازًا فرديًا. وإلا فإن لبنان يخاطر بأن يستبدل القصف بالجرافات في مسار التهجير المستمر للفئات الفقيرة.
سابعًا: إعادة التفكير في الحوكمة — من أجل إعادة إعمار تشاركية ولا مركزية
لطالما همشت السلطات المركزية البلديات والهيئات المحلية في لبنان، مما أدى إلى تركيز السلطة بيد النخب السياسية والطائفية وتقويض المحاسبة الديمقراطية.وتشكّل مرحلة الإعمار فرصة تاريخية لعكس هذا المسار.
يدعو تحالف أراب واتش إلى نموذج حوكمي لا مركزي وتشاركي، يُمكن فيه للبلديات، واتحادات البلديات، والمجتمع المدني، والسكان أنفسهم المشاركة في تصميم مسارات التعافي.
ويجب أن تشترط المؤسسات المالية الدولية ربط تمويلها بآليات رقابة محلية، ومجالس رقابة مجتمعية، وتقييمات مبنية على حقوق الإنسان.الإعمار ليس مجرد عملية تقنية: بل هو فرصة لتجديد العقد الاجتماعي وإحياء الخيال الديمقراطي.
الإعمار كمشروع وطني وسياسي
إن الحرب التي عاشها لبنان عامي 2024–2025 لم تكن مجرد كارثة إنسانية، بل كانت أيضًا انعكاسًا لفشل المنظومات الحاكمة والاقتصادية والجيوسياسية. ولهذا، يجب أن تتجاوز عملية الإعمار فكرة الترميم لتصبح مشروعًا للإنصاف وجبر الضرر.
يدعو تحالف أراب واتش إلى عملية إعادة إعمار لا تكتفي بإعادة بناء ما كان، بل تبني ما يمكن أن يكون: لبنان أكثر عدالةً ومساواةً وسيادةً.
على المؤسسات المالية الدولية والمانحين أن يتخلوا عن أنماط التكنوقراطية والإقصاء التي سادت في السابق، وأن يدعموا أطرًا تضع المشاركة والاستدامة والحقوق في صلب رؤيتها.ويجب أن يتعاملوا مع المجتمع المدني ليس كمُنفذ للسياسات، بل كشريك في صياغتها، وحارس على المساءلة.
اليوم، يقف لبنان على مفترق طرق. والطريق الذي يسلكه سيتحدد ليس فقط بما يُمَوّل، بل بمن يُسمع صوته، ومن يُشرك في القرار، ومن يُعاد إليه حقه.
بقلم حسين شعيتو