عن مؤسسات التمويل الدولية والعقود الاجتماعية الجديدة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
بقلم : شيرين طلعت، تحالف آراب واتش وعلياء الهنداوي،مرصد الاعمال و حقوق الانسان.
تركز مؤسسات التمويل الدولية، كاستجابة للأهداف الإنمائية على تمويل القطاع الخاص و التمويل المختلط الذي يدعم الشراكات بين القطاعين العام و الخاص، مما يحفز الاستثمار. حيث تعمل مؤسسات التمويل على استثمار مليارات الدولارات من المساعدات والقروض لخلق فرص عمل وتحقيق النمو الاقتصادي في البلدان الفقيرة. و تعمل كذلك على مراجعات دورية لواقع الاقتصاد العالمي ودراسة المتغيرات ذات التأثير فتضع التوصيات التى من شأنها تعظيم الاستفادة منها و تقترح الحلول من أجل التخفيف من أثرها على الاقتصادات و المجتمعات.
عندما عصفت الثورات و الحراكات بالمنطقة العربية في بداية ٢٠١٠ برزت أهمية الدور الرعوي الذي تقوم به الدولة في العالم النامي، و برزت معه أهمية الاستثمار الاجتماعي. فاتجهت مؤسسات التمويل الدولية نحو تفسير ما حصل على انه انهيار العقد الاجتماعي. و دعت الى حوار حول ضرورة إعادة النظر في العقد الاجتماعي القائم وتقديم تصور لعقد اجتماعي جديد يعيد الثقة بين أطراف المجتمع.
لتحقيق ذلك، دار الحديث حول تنمية مجتمعية شاملة تولي أهمية أكثر للفئات الأكثر هشاشة في المجتمع، مع الالتفات الى ضرورة تطوير سياسات جديدة تقاربية بين المجالين الاقتصادي والاجتماعي. فمثلاُ، ارتبط الحديث عن العقد الاجتماعي الجديد بالإنفاق الاجتماعي الذي يركز على الاستثمار في العنصر البشري. الهدف النهائي من ذلك هو بناء المهارات و الكفاءات من خلال تحسين التعليم وتوسيع رقعة الرعاية الصحية وتعزيز شبكات الأمان الاجتماعي وغيرها مما يزيد مكاسب فئات المجتمع المختلفة و يسهم في تحقيق الازدهار للجميع.
و لكن رغم التغيير في خطاب المؤسسات التمويلية، إلا أن السياسات الاقتصادية التي تفرضها على المستفيدين من القروض والمساعدات لم تتغير في مضمونها. بل ما زالت تعتمد ذات السياسات التقشفية التي توسع الفجوة الاجتماعية والاقتصادية بين أطياف المجتمع. ففي الأردن مثلاً، و بالرغم من الانكماش الاقتصادي، أصر صندوق النقد الدولي على ضرورة فرض ضرائب إضافية لخدمة الدين العام. الأمر الذي دفع بالناس الى التظاهر في صيف عام 2016 وأدى الى اسقاط حكومة هاني الملقي فجاءت بعدها حكومة عمر الرزاز التي قامت بإنفاذ نفس البرنامج الضريبي والسياسات التقشفة التي كان قد فرضها الصندوق من قبل. ولم تركز هذه السياسات على تعزيز الاستثمار الاجتماعي، لا من خلال دعم البرامج التي ترفع كفاءة وجاهزية وتنافسية الأفراد في سوق العمل المحلي و الدولي، ولا من خلال تعزيز الاستثمار في شبكات الأمان الاجتماعي.
مؤسسات التمويل الدولية و أداء القطاع الخاص
يمكن لمؤسسات التمويل الدولية أن تضع معايير عالية لضمان احترام حقوق الإنسان. فالبنك الدولي مثلا يلزم متلقي القروض و المساعدات بما يعرف بإطار العمل البيئي و الاجتماعي الذي يرسم الإطار العام لما هو مقبول في تلك المشاريع. هذا يعني أن مؤسسات التمويل الدولية يمكن أن يكون لها تأثير مباشر وإيجابي على أداء حقوق الإنسان للقطاع الخاص الملزم بالامتثال لهذه المعايير، حتى لو كانت أعلى من المعايير المطبقة محلياً.
لذلك، يمكن لمؤسسات التمويل الدولية أن تدعم الترويج لعقود اجتماعية جديدة في المنطقة من خلال دعم استثمار القطاع الخاص القائم على احترام حقوق الانسان، وتحقيق تكافؤ الفرص ودعم الفئات الأكثر هشاشة كالعمالة اللاجئة والمهاجرة والنساء وتجريم الممارسات التي تؤدي الى انتهاك حقوق الإنسان وتعود بالأثر السلبي على البيئة والمجتمعات. كما يمكنها تعطيل فرص الاستثمار للقطاع الخاص المبني على نماذج أعمال لا تضع حقوق الإنسان في صلب عملياتها بشكلٍ مُعلن. بل يمكن الذهاب الى أبعد من ذلك و اشتراط قيام الشركات بإعلان رسمي ينص على الالتزام بحقوق الإنسان في كافة عملياتها.
بالنظر إلى هيمنة الاقتصاد غير الرسمي في المنطقة العربية والذي يوظف نسبة أكبر من الباحثين عن عمل، لا يمكن التقليل من أهمية تحسين العقود الاجتماعية – وتأثير مؤسسات التمويل الدولية في تصميم نموذج أعمال يدعم ذلك هو أمر حيوي. تُظهر أدلة عديدة انتشار انتهاكات حقوق الإنسان حين تتشابك العلاقات الصناعية والتعاقد من الباطن على امتداد سلاسل التوريد. حتى في القطاعات الخاضعة للتنظيم، تنتشر انتهاكات حقوق الإنسان. وفقاً لمسح قام به مرصد الاعمال و حقوق الانسان، نجد ان 38 شركة مقاولات في الاردن و لبنان ممن تلقت تمويلاً من البنك الدولي لم تورد أيٍ منها دراسة مخاطر انتهاكات لحقوق الانسان بالرغم من انتشار الادعاءات حول انتشار تلك الانتهاكات. المسح أظهر أن هذه الشركات لا تضع خطط كافية لحماية العمال من مخاطر الانتهاكات السائدة في القطاع و خصوصاً الفئات العمالة الاكثر ضعفاً مثل العمالة المهاجرة.
وهنا يجدر التنويه لمؤسسات التمويل الدولية الممولة للقطاع الخاص إلى إمكانية الاستئناس بالمبادىء التوجيهية للأمم المتحدة حول الاعمال التجارية و حقوق الانسان، التي تتطلب من القطاع الخاص بتطبيق العناية الواجبة حول حقوق الانسان وإن لم يكن ذلك إلزامياً في القوانين المحلية. و كذلك، يمكن لمؤسسات التمويل الدولية الاستئناس بإعلان المبادىء الثلاثي بشأن المنشآت متعددة الجنسية و السياسة الاجتماعية الصادر عن منظمة العمل الدولية والذي يلفت الانتباه الى العديد من النقاط المهمة حول دورالشركات متعددة الجنسيات في العولمة الاقتصادية و الاجتماعية.
اليوم يصارع العالم بأكمله أزمة جائحة كوفيد، التي سلطت الضوء بشكل أكبر على غياب الحوكمة الرشيدة، وانتشار الفساد، وانعدام الشفافية والمساءلة. إن توسع مؤسسات التمويل الدولية في الاستثمار الاجتماعي سيكون له بالغ الأثر في الانتقال بمجتمعات المنطقة الى التعافي السريع من الأثر الكارثي الذي خلفته جائحة كورونا في المنطقة. إذ يًتوقع له أن يعجل من عملية التعافي و يرسخ الثقة بين اطياف المجتمع بما يساهم في تحقيق السلام. الاستفادة من قدرة مؤسسات التمويل الدولية على إرساء قواعد جديدة للعبة تتمثل في إلزام القطاع الخاص بمنظومة الحقوق الدولية بغض النظر عن المنظومات المحلية تُعد فرصة لا يجب إهدارها.
نشر أيضا على : https://www.business-humanrights.org/