تشكيل الحكومة اللبنانية—تسع أولويات عاجلة للتعافي الاقتصادي

تشكيل الحكومة اللبنانية—تسع أولويات عاجلة للتعافي الاقتصادي

لا يزال المسار الاقتصادي في لبنان هشًّا بعد الحرب المدمّرة مع إسرائيل (أكتوبر 2023 – نوفمبر 2024)، والتي فاقمت أزمة مالية كانت بالفعل في مرحلة حرجة. ومع توقع استئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي بشأن برنامج استقرار اقتصادي، من الضروري إعطاء الأولوية لسياسات تحقق تعافيًا عادلًا وتجنب التدابير المالية الرجعية. نظرًا لأن أمام الحكومة الجديدة حوالي 450 يومًا حتى الانتخابات النيابية المقبلة، فإن اتخاذ إجراءات عاجلة أمر ضروري لضمان تحقيق تقدم ملموس لا يؤدي إلى تفاقم أوجه التفاوت الهيكلي.

الالتزام بمساءلة مؤسسية للسياسات المالية والنقدية

يجب على الحكومة وصندوق النقد الدولي إرساء آليات مساءلة مؤسسية تمنع سوء الحوكمة المالية. يجب أن يتم ترسيخ الرقابة البرلمانية على اتفاقيات صندوق النقد الدولي ضمن إطار قانوني، مع فرض عمليات تدقيق مستقلة على معاملات الدين العام من خلال مجلس مالي وطني. كما ينبغي إخضاع سياسات مصرف لبنان النقدية لمراجعات مستقلة تضمن أن تكون قرارات أسعار الفائدة وإدارة الاحتياطي متوافقة مع أهداف اقتصادية مستدامة، بدلاً من أن تخدم مصالح النخب الريعية.

إعادة هيكلة الدين بعيدًا عن إعادة تدوير الأزمة المالية

يجب أن تعالج إعادة هيكلة الدين أوجه التفاوت التي ميّزت الانهيارات المالية السابقة. ينبغي أن يفرض صندوق النقد الدولي توزيع الخسائر وفقًا لمعايير تقدمية، بحيث يتحمل كبار الفاعلين الماليين والأشخاص المكشوفين سياسيا الجزء الأكبر من الخسائر، بدلاً من تحميلها للمودعين العاديين. كما يجب سنّ أدوات قانونية لمنع هروب رؤوس الأموال، وتتبع الأموال المحولة بطرق غير مشروعة وإعادتها إلى البلاد. لا يمكن أن تكون إجراءات التقشف ثمنًا للإعفاء من الدين؛ بل يجب أن تركز إعادة الهيكلة على استقرار اقتصادي شامل.

توحيد سعر الصرف مع سياسات مرنة للسيطرة على التضخم

يُعد توحيد سعر الصرف أمرًا ضروريًا، لكنه يجب أن يتم بالتوازي مع تدابير للحد من التضخم، لمنع التدهور المفرط الذي يُضعف القدرة الشرائية للرواتب الحقيقية. على صندوق النقد الدولي أن يضمن أن تتضمن أي خطة توحيد لسعر الصرف سياسات لمواءمة الأجور مع التضخم، وتدابير مستهدفة لتثبيت أسعار السلع الأساسية، وإشرافًا فعالًا على سوق العملات الأجنبية لمنع التلاعبات المضاربية التي تفيد الفاعلين الماليين المهيمنين.

إصلاح النظام الضريبي لتفكيك بنية الريع المالي

يجب إعادة هيكلة الإطار الضريبي في لبنان لزيادة فرض الضرائب على الثروة ورأس المال. ينبغي أن تشمل السياسات الضريبية التقدمية: فرض ضرائب على المعاملات المالية الكبرى والمضاربات، وإصلاح ضريبة العقارات والشواغر العقارية لإلغاء الإعفاءات التي يستفيد منها كبار المالكين المرتبطين سياسيًا، وضمان تحصيل الضرائب على الأصول الخارجية. يجب أن يربط صندوق النقد الدولي مساعداته المالية بهذه الإصلاحات الضريبية العادلة، بدلًا من الاكتفاء بالمطالبة برفع ضريبة القيمة المضافة أو الضرائب غير المباشرة التي تثقل كاهل الفئات المتوسطة والمحدودة الدخل.

استعادة الخدمات العامة كدعامة أساسية للاقتصاد

يجب إعادة الاستثمار في القطاع العام لعكس عقود من الخصخصة التي مكّنت الكيانات الاحتكارية من الاستحواذ على الخدمات الأساسية. ينبغي أن تشمل الأطر المالية التي يدعمها صندوق النقد الدولي بنودًا مخصصة للإنفاق على الرعاية الصحية والتعليم والنقل العام. كما يجب إعادة هيكلة رواتب القطاع العام بناءً على معايير شفافة، لضمان أن تعكس الأجور الحقيقية تكاليف المعيشة. لا ينبغي أن تكون الخصخصة شرطًا لتحقيق الاستقرار المالي؛ بل يجب التركيز على ضمان كفاءة وشفافية الخدمات العامة.

إضفاء الطابع المؤسسي على الإصلاحات لمكافحة الفساد

لا يمكن تحقيق الاستقرار الاقتصادي دون إطار شامل لمكافحة الفساد. يجب أن يُصرّ صندوق النقد الدولي على إنشاء هيئة مستقلة فعلية لمكافحة الفساد تتمتع بسلطات قضائية، وتفرض إلزامية الإفصاح المالي للمسؤولين الحكوميين، وتنفذ قوانين لحماية المبلغين عن الفساد. بالإضافة إلى ذلك، يجب ربط التعافي الاقتصادي باستقلالية القضاء، لضمان محاسبة المسؤولين عن سوء الإدارة المالية، بما في ذلك قضايا انفجار مرفأ بيروت وانهيار القطاع المصرفي، دون تدخل سياسي.

إعادة بناء الاقتصاد من خلال توسيع القاعدة الصناعية والزراعية

يجب أن ينتقل لبنان من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد منتج من خلال إعادة الاستثمار في الصناعة والزراعة. ينبغي أن يركز صندوق النقد الدولي على مشاريع البنية التحتية التي تعزز التصنيع المحلي وتحقيق الاكتفاء الذاتي الزراعي، مما يقلل الاعتماد على الواردات. كما يجب توفير خطوط ائتمان خالية من الفوائد للمشاريع الزراعية التعاونية، وفرض تعريفات جمركية مرتفعة على القطاعات التي يمكن فيها استبدال السلع المستوردة بمنتجات محلية.

ضمان سيادة وإدارة شفافة وعادلة لصناديق إعادة الإعمار

يجب ألا تتحول إعادة الإعمار بعد الحرب إلى فرصة جديدة لإثراء النخب. ينبغي على صندوق النقد الدولي والحكومة اللبنانية إنشاء هيئة وطنية مستقلة لإعادة الإعمار، تعمل وفق آليات تمويل شفافة تضمن أولوية البنية التحتية الاجتماعية على المضاربات العقارية التي تقودها النخب. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تخضع جميع عمليات صرف المساعدات لتقارير علنية آنية لمنع إساءة الاستخدام.

إصلاح القطاع المصرفي واستعادة حقوق المودعين

يجب أن يضمن انخراط صندوق النقد الدولي في القطاع المالي اللبناني تسوية عادلة للأزمة المصرفية المستمرة. يجب سن قوانين للتحكم في رأس المال لمنع استمرار خسائر المودعين، كما ينبغي إجراء تدقيق جنائي شامل للمصارف التجارية لتحديد المسؤوليات عن سوء الإدارة المالية. يجب أن تكون استعادة أموال المودعين وفق هيكل تدريجي يضمن الأولوية للمودعين الصغار والمتوسطين على حساب الدائنين السياسيين النافذين.

Sharing is caring!