استحواذ القطاع الخاص على قطاع الرعاية الصحية العامة في مصر: السياق، التداعيات والبدائل في ضوء أهداف صندوق النقد الدولي

استحواذ القطاع الخاص على قطاع الرعاية الصحية العامة  في مصر: السياق، التداعيات والبدائل في ضوء أهداف صندوق النقد الدولي

تمهيد

يُعد إصلاح القطاع العام في مصر شرطًا أساسيًا للحصول على أحدث قرض من صندوق النقد الدولي البالغ 8 مليارات دولار. يشمل ذلك بيع الشركات الحكومية وخصخصة قطاع الرعاية الصحية العامة في مصر. في هذا السياق، دخل قانون جديد حيز التنفيذ في يونيو 2024، يسمح بتأجير وإدارة وتشغيل وإنشاء المرافق الصحية العامة بواسطة القطاع الخاص. تتناول هذه الورقة الآثار المحتملة والتداعيات لهذا القانون وسياسات إصلاح الصحة العامة المشابهة على حقوق الأفراد والأسر في الصحة. وتركز بشكل خاص على أوجه القصور في العملية التي تم اتباعها قبل اعتماد القانون المذكور، والمعايير الدنيا التي يجب احترامها عند تناول دور القطاع الخاص في تقديم الرعاية الصحية العامة، والسياسات البديلة التي يمكن النظر فيها لتحقيق أهداف صندوق النقد الدولي في البلاد دون المساس بالحق الدستوري في الصحة للجميع.

أهداف البحث

تتناول هذه الورقة الآثار والتداعيات المُترتبة على القانون رقم 87 لعام 2024،  والذي يُنظّم  تأجير وإنشاء وإدارة وتشغيل المرافق الصحية العامة من قِبل القطاع الخاص، بالإضافة إلى سياسات إصلاح الصحة العامة المماثلة، على الحق في الصحة للأفراد والأسر.  وتُركز الورقة بشكل خاص على الإجابة على الأسئلة التالية:

١. إلى أي مدى تحترم عملية تمرير قانون تأجير المستشفيات العامة للقطاع الخاص الالتزامات الوطنية تجاه الشفافية والمساءلة والمشاركة في السياسة العامة، بما في ذلك التدابير التي اتخذها صندوق النقد الدولي لتعزيز الشفافية في السياسات في مصر؟

٢. ما هو الحد الأدنى من المتطلبات لمشاركة القطاع الخاص في تقديم خدمات الرعاية الصحية العامة، لضمان تحسين الخدمات دون التأثير السلبي على إمكانية الوصول إلى الخدمات وتكلفتها من جهة، وحقوق العاملين في مجال الرعاية الصحية من جهة أخرى؟

٣. ما هي البدائل الممكنة والمسؤولة الأخرى التي يمكن السعي إليها لتحقيق نمو القطاع الخاص ومشاركته في قطاع الرعاية الصحية والتي يجب على صندوق النقد الدولي أخذها في الاعتبار؟

السياق

الالتزامات الوطنية والعالمية المتعلقة بالحق في الصحة

تم التعبير عن الاعتراف بالحق في الصحة كحق إنساني أساسي لأول مرة في دستور منظمة الصحة العالمية لعام 1946، حيث تم الإشارة إليه باعتباره “أعلى مستوى قابل للتحقيق من الصحة”. اليوم، يتم التأكيد على الحق في الصحة في العديد من المعاهدات الدولية لحقوق الإنسان (مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (ICESCR) واتفاقية حقوق الطفل (CRC)) ودساتير العديد من الدول.

مصر وإصلاح نظام الرعاية الصحية

في عام 2014، حقق الدستور المصري الجديد مرحلة حاسمة من منظور حقوق الإنسان، خاصة في الطريقة التي تضمن بها الحق في الصحة كحق أساسي يتماشى مع الالتزامات الوطنية والدولية التي تلتزم بها البلاد¹. ينص هذا الدستور الجديد أيضًا على مسؤولية الحكومة في توفير نظام تغطية صحية شاملة لجميع المصريين دون تمييز. ويأتي ذلك في وقت تشهد فيه مصر تكاليف صحية كارثية، حيث تعتبر من بين الأعلى مقارنة بالدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط، مما يؤثر بشكل غير متناسب على الأفراد والأسر في أدنى فئات الدخل.

اليوم، تبدأ مصر في محاولة طموحة لتحقيق وتنفيذ نظام التغطية الصحية الشاملة الإلزامية. وفي هذه المسعى التحدي، يجب إعادة تعريف دور المشاركة المجتمعية والجهات العامة والخاصة. لن يتحقق الانتقال من نظام رعاية صحية مُجزّأ، يتسم بـ ارتفاع نفقات العلاج الشخصية، وعدم المساواة، نتائج متدنية، وسوء رضا المستخدمين، وتكاليف عامة مُتزايدة، إلى نظام يلبي تطلعات المواطنين حقًا، إلا من خلال مشاركة مجتمعية حقيقية وشاملة تُفضي إلى إصلاح جذري يبدأ من القاعدة وصولاً إلى القمة.

وقد تم التأكيد على ذلك بوضوح منذ عام 1978 في المادة الرابعة من إعلان ألما آتا الذي ينص على أن “للفئات الشعبية الحق والواجب في المشاركة الفردية والجماعية في تخطيط وتنفيذ رعايتهم الصحية².”

البرنامج المدعوم من صندوق النقد الدولي في مصر

يهدف البرنامج المدعوم من صندوق النقد الدولي في مصر إلى ضمان الاستقرار الكلي للاقتصاد وتأمين نمو يقوده القطاع الخاص. لتحقيق ذلك، يركز البرنامج على أربعة أهداف رئيسية، الرابع منها هو “تحقيق توازن أفضل بين أدوار القطاعين العام والخاص، مع التركيز على تعزيز المنافسة والسماح بدور أكبر للقطاع الخاص في دفع النمو.” تشمل التدابير التي يدعمها صندوق النقد الدولي في هذا المجال “استمرار تنفيذ سياسة ملكية الدولة وتنفيذ برنامج التخلص من الأصول”. من جانبها، ينبغي أن “تلعب هذه الإجراءات دورًا حاسمًا في تقليص حضور الدولة وتعزيز قدرة القطاع الخاص على المساهمة بشكل أفضل في النمو الاقتصادي في مصر.”³

يُعد إصلاح القطاع العام في مصر شرطًا أساسيًا للحصول على أحدث قرض بقيمة 8 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي. يشمل ذلك بيع الشركات الحكومية وكذلك خصخصة قطاع الرعاية الصحية العامة في مصر؛ وكل ذلك بهدف رفع مشاركة القطاع الخاص من 30% إلى 48% في 2024-2025.⁴

القانون رقم 87 لعام 2024

تماشيًا مع هذه الاستراتيجية وبسرعة غير مسبوقة، تم إقرار قانون جديد يمنح القطاع الخاص الحق في إدارة وإنشاء وتشغيل المستشفيات والمرافق الصحية الجديدة والقائمة التابعة للقطاع العام⁵. على الرغم من مواجهة هذا القانون لمجموعة واسعة من المعارضات العامة بما في ذلك من نقابة الأطباء، فضلاً عن الدعاوى القضائية التي تتحدى امتثاله للدستور، إلا أن هذا القانون يفتح الأبواب لاستئجار المرافق الصحية العامة التي تخدم في المقام الأول الفئات ذات الموارد المحدودة. يتزامن ذلك مع تطبيق نظام التأمين الصحي الشامل، وتحسّن ملحوظ في إدارة القطاع العام للمرافق الصحية الحكومية، في وقتٍ تُثقل فيه آثار التضخم والأعباء الاقتصادية كاهل الأسر، وتُهدد قدرتها على تحمّل تكاليف العلاج.

يشكل هذا القانون الجديد خطوة تشريعية نحو الالتزام بأحكام صندوق النقد الدولي، مما يظهر اتجاهًا استراتيجيًا نحو تعزيز دور القطاع الخاص من خلال خطة قوية للتخلي عن الأصول العامة تبدأ بقطاع الرعاية الصحية بشكل خاص.

المنهجية والقيود

توفر هذه الورقة مراجعة نوعية للقانون رقم 87 لعام 2024 وعملية تشريعه، وتستند نتائجها و استنتاجاتها وتوصياتها إلى مراجعة الوثائق المتاحة، وآراء الخبراء والمدخلات من المصادر المتاحة التالية: 

١. مراجعة القانون ذي الصلة الذي تم نشره رسميًا واللوائح التنفيذية المتعلقة به.

٢. مراجعة البيانات الرسمية، البيانات الصحفية والتغطية الإعلامية المتعلقة بالقانون وعملية تشريعه.

٣.  مراجعة وثائق صندوق النقد الدولي المتعلقة بمصر مع التركيز بشكل خاص على الهدف المتعلق بتعزيز دور القطاع الخاص في دفع النمو.

٤. المدخلات المستخلصة من مختلف الجهات المعنية والخبراء الميدانيين، بما في ذلك القطاع الخاص، وخبراء في الحق في الصحة، وأعضاء البرلمان، ومقدمي خدمات الرعاية الصحية في المجتمع المدني، ومقدمي خدمات الرعاية الصحية من القطاعين العام والخاص، بالإضافة إلى أعضاء النقابات الطبية.

تم مراجعة وتجميع الموارد والمدخلات خلال شهري سبتمبر وأكتوبر 2024. 

القيود

 تستند هذه الورقة إلى المعلومات والمدخلات المتاحة خلال الفترة الزمنية المحددة لكتابتها. وهذه تصف فترة تم فيها إصدار القانون المعني رسميًا ولكن لم يدخل حيز التنفيذ بعد. لذلك، لا تشمل الورقة التحديات العملية والمدخلات التي يُحتمل أن تُلاحظ مع بدء تنفيذ القانون. تم إخفاء هوية الخبراء والجهات المعنية الذين تم التشاور معهم بناءً على طلبهم.

النتائج والتحليل

إلى أي مدى احترمت العملية المتبعة في تمرير قانون تأجير المستشفيات العامة للقطاع الخاص الالتزامات الوطنية تجاه الشفافية والمساءلة والمشاركة في السياسة العامة، بما في ذلك التدابير التي اتخذها صندوق النقد الدولي لتعزيز الشفافية في السياسات في مصر؟

تتركز التدابير التي ذكرها صندوق النقد الدولي لتعزيز الشفافية الأكبر في السياسات في مصر بشكل رئيسي على المساءلة والشفافية المتعلقة بالمالية، والميزانيات، والمشتريات، وعمليات التدقيق المالي. ومع ذلك، فهي متأخرة بشكل كبير في تغطية أي تدابير تتعلق بكيفية “وضع السياسات” وأهمية المشاركة المجتمعية السليمة في هذا الصدد⁶.

وتُظهر التجارب التاريخية أن غياب التواصل والمشاركة والحوار يُؤدي إلى فشل العمليات في تحقيق أهدافها. لقد مرت محاولات إصلاح نظام الرعاية الصحية في مصر بأكثر من ثلاثة عقود من إعادة الهيكلة، والتشريع، والتجارب الأولية. كانت هناك عدد من العيوب الرئيسية التي ظلت موجودة طوال العملية: محدودية الوصول إلى المعلومات، محدودية مشاركة المجتمع، ومحدودية مشاركة المواطنين في جميع المراحل بما في ذلك التخطيط، والتشريع، والتنفيذ.

وقد دفع هذا الوضعُ المنظماتِ المُدافعة عن نظام رعاية صحية عادل إلى موقف مُعارضة مُستمر. وتجلى ذلك بوضوح في سبتمبر 2008، عندما كسبت هذه المنظمات قضيةً قانونيةً ضد خطة وزارة الصحة لإنشاء شركة قابضة للرعاية الصحية، الأمر الذي أدى إلى توقف خطة إصلاح الرعاية الصحية آنذاك.⁷

يُسلّط منشور “الناس في قلب الرعاية الصحية” الصادر عن منظمة الصحة العالمية الضوء على أهمية نهجٍ يُركز على وضع الناس في صميم تطوير نظم الرعاية الصحية، حيث ينص على أن أنظمة الرعاية الصحية يجب أن تأخذ آراء الناس في الاعتبار بشكل كبير؛ “ليس كإحصائيات أو أهداف للتدخلات، بل كشركاء كاملين ومتساوين” في عملية تحسين الصحة والرفاهية⁸. إن تمكين الناس يضمن أن السياسات تُنشأ لخدمتهم بشكل فعال، لأنهم هم الأكثر دراية بالقصور في الأنظمة القائمة.

وإذا كان ثمة اتفاقٌ واحدٌ جمع كل الجهات التي استُشيرت أثناء إعداد هذه الورقة، فهو أن عملية إصدار القانون رقم 87 لعام 2024 خلت من أي استشارة جادّة للجهات المعنية، أو حتى استشارة شكلية، قبل اعتماده. يوضح الجدول الزمني التالي تطور هذا القانون والمعالم المرتبطة به، مبرزًا كيف مر القانون ببساطة خلال عطلة نهاية الأسبوع دون أي مشاورات عامة موثقة بشأنه، مع مجموعة من التصريحات العلنية الواضحة والمستعجلة التي تعارضه من الأطراف المعنية:

التاريخ الحدث
1946 إصدار القانون رقم 129 لعام 1947 بشأن استخدام المرافق العامة. تم إلغاء أحكام هذا القانون بواسطة القانون رقم 87 لعام 2024.
1958 إصدار القانون رقم 61 لعام 1958 المعدل لأحكام استخدام المرافق العامة والموارد الطبيعية. تم إلغاء أحكام هذا القانون بواسطة القانون رقم 87 لعام 2024.
2014 إصدار الدستور المصري الجديد الذي يحدد بوضوح الحق في الصحة كحق أساسي لجميع المصريين.
2018 إصدار القانون رقم 2 لعام 2018 الذي ينص على إنشاء نظام تغطية صحية شاملة لتغطية كافة السكان المصريين، وتوفير الخدمات من خلال التعاقد مع مقدمي خدمات الرعاية الصحية العامة والخاصة.
2021 إصدار القانون رقم 8 لعام 2021 الذي ينظم بنوك الدم والبلازما ومشتقاتها. ما زالت أحكام هذا القانون سارية وقد تم استبعادها من أحكام القانون رقم 87 لعام 2024.
13 مارس 2024 إصدار القانون رقم 75 لعام 2024 الذي يرفع أسعار خدمات الرعاية الصحية المقدمة من المرافق الصحية العامة.
7 مايو 2024 أول إشارة إلى الشراكات المستمرة مع القطاع الخاص لإدارة وتشغيل عدد من المرافق الصحية العامة بما في ذلك الصفقات الجديدة التي تشمل 5 مرافق صحية ضخمة في القاهرة والجيزة.
13 مايو 2024 تقديم الحكومة المصرية إلى لجنة الصحة في البرلمان اقتراح قانون جديد بشأن تأجير وإدارة وتشغيل المرافق الصحية العامة بواسطة القطاع الخاص.
17 مايو 2024 إتاحة مسودة القانون المقترح مع التعديلات المقترحة من قبل لجنة الصحة للجمهور.
18 مايو 2024 إصدار رئيس نقابة الأطباء بيانًا يعارض القانون المقترح ويحذر من مخاطره على المرضى المصريين ومقدمي الرعاية الصحية.
20 مايو 2024 إقرار مجلس النواب في جلسته العامة التشريع الحكومي المقدم الذي يسمح للقطاع الخاص بإنشاء وإدارة المرافق الصحية العامة.
24 يونيو 2024 اعتماد رئيس الجمهورية للقانون رقم 87 لعام 2024 الذي يسمح بإدارة واستحواذ وإنشاء المرافق الصحية العامة بواسطة القطاع الخاص دون أي تعديلات.
4 يوليو 2024 رفع دعوى قضائية ضد خصخصة المرافق الصحية العامة قدمها 6 أطباء من القطاع العام مع التركيز الخاص على 21 مرفقًا صحيًا تم تخصيصها بالفعل لمديري القطاع الخاص قبل إصدار القانون.
14 أغسطس 2024 إصدار اللوائح التنفيذية لتنفيذ القانون رقم 87 لعام 2024.

تُظهر عملية التشريع المتبعة مع هذا القانون الجديد إهمالًا كبيرًا لمفاهيم الشفافية، والمساءلة، ومشاركة الأطراف المعنية، وهي جميعها أعمدة أساسية للحكم الرشيد. ومع ذلك، لم يُبدِ صندوق النقد الدولي أي تحفظات تُذكر حيال ذلك، إذ غالبًا ما يلجأ إلى تفسيرٍ محدودٍ لمفهوم إشراك  الأطراف المعنية والشفافية، مقتصرًا على عمليات التدقيق المالي و المشتريات والمساءلة المالية بالمعنى العام. ويُشكّل هذا التباين بين المشاركة الحقيقية لأصحاب المصلحة ومتطلبات صندوق النقد الدولي “نقطة ضعف” كبيرة تُهدد استدامة وفعالية هذه القوانين والسياسات، وتُنذر بردود فعلٍ سلبية من الرأي العام، ومُقاومة شديدة أثناء التنفيذ، وجهودٍ وهدرٍ في الإنفاق لا طائل من ورائها.

على الرغم من أن صندوق النقد الدولي قد بذل جهودًا متزايدة في تعزيز التزامه بالشفافية والمساءلة، سواء في عملية اتخاذ القرارات الداخلية أو بين الدول المستفيدة⁹، إلا أنه يجب الإشارة إلى أن قدرته على فرض تدابير حقيقية لمشاركة الأطراف المعنية وقياس الشفافية بين الدول المختلفة لا تزال متأخرة بشكل كبير. على سبيل المثال، في سبتمبر 2023، وجد استعراض لالتزامات برنامج صندوق النقد الدولي في سريلانكا أن البرنامج وصل إلى أدنى نقطة في الشفافية¹⁰، حيث لم يتم الوفاء بثلاثة من أصل أربعة من التزامات الحكومة لتعزيز الشفافية، مما يعكس “نقصًا متزايدًا في الشفافية بشأن تقدم البرنامج، وفشلًا متزايدًا في الوفاء بالالتزامات التي يدعو إليها صندوق النقد الدولي بشأن زيادة الشفافية الحكومية”. علاوة على ذلك، كشف استعراض أجرته منظمة الشفافية الدولية بشأن المشاركة المدنية والشفافية وتدابير مكافحة الفساد لصندوق النقد الدولي بشأن أموال الاستجابة الطارئة لجائحة كوفيد-19 المقدمة إلى 4 دول (بما في ذلك مصر) عن الفجوة في جهود صندوق النقد الدولي لضمان التزام الحكومات بالشفافية والمشاركة المجتمعية وتدابير المساءلة¹¹ . من بين العوامل التي أشار إليها هذا الاستعراض والتي تساهم في ضعف تنفيذ التزامات الشفافية كان “التفاوت في نهج صندوق النقد الدولي فيما يتعلق بالتدابير والمتابعة. حيث اختلفت التدابير المحددة التي طلبها صندوق النقد الدولي بشكل كبير من حكومة إلى أخرى، ولم يرتبط الامتثال في بعض الحالات بالإقراض المستقبلي. والأهم من ذلك، أن الكاميرون والإكوادور فقط هما من تابعا التزاماتهم الأولية لأن صندوق النقد الدولي جعل الموافقة على طلب قرض ثانٍ مشروطًا بذلك. ولم يُطبّق الصندوق هذا الشرط على مصر، رغم التنفيذ الضعيف لالتزاماتها”.

ما هي الحد الأدنى من المتطلبات لمشاركة القطاع الخاص في تقديم خدمات الرعاية الصحية العامة، لضمان تحسين الخدمات دون التأثير السلبي على إمكانية الوصول إلى الخدمات وتكلفتها من جهة، وحقوق العاملين في مجال الرعاية الصحية من جهة أخرى؟

قبل تمرير القانون في نسخته النهائية لاعتماده من قبل الجمعية العامة للبرلمان في 20 مايو 2024، أصدرت لجنة الصحة عددًا من “الشروط” لإدارة وتشغيل أو تأجير المرافق العامة في قطاع الرعاية الصحية من قبل القطاع الخاص¹². على الرغم من أن بعض هذه الشروط تم تضمينها في القانون المعتمد (مثل استبعاد المرافق الصحية الأولية و وحدات صحة الأسرة)، إلا أن العديد من هذه الشروط لا تزال تفتقر إلى ضمانات تشغيلية في القانون أو اللوائح التنفيذية الصادرة حديثًا.

بالإضافة إلى ذلك، تم تحديد وتجميع الحد الأدنى من المتطلبات التالية، موضحة ما يجب أن يحترمه أي قانون أو لائحة أو إطار عمل لمشاركة القطاع الخاص في قطاع الرعاية الصحية العامة.

يجب أن تشمل القوانين أو الأطر التنظيمية:

١.أحكام تضمن دور الدولة في تحديد أسعار الخدمات. 

٢.لوائح واضحة تلزم القطاع الخاص بالامتثال لمستوى الحد الأدنى من المؤهلات للموظفين بناءً على المعايير التي تحددها الجهات المختصة.

٣. شروط تضمن أن جميع الموظفين لديهم عقود رسمية وقانونية، مع حد أدنى من العمال الدائمين (بدلاً من الاعتماد بشكل أساسي على الأطباء والممرضين الزائرين) وأن جميع المدفوعات مسجلة وموضوعة تحت الضريبة (دون استثناء لرسوم الأطباء الزائرين التي غالبًا ما تحدث بدون توثيق في القطاع الخاص).

٤. ضمان التزام المستثمر بتقديم الخدمات الصحية المحددة من قبل الدولة في كل منشأة، دون تقليص أو تغيير في الخدمات المقدمة أو عدد الأسرة.

٥. تطبيق جميع قوانين العمل على جميع العاملين في المنشأة (بما في ذلك التأمين الاجتماعي والصحي، والأجر الأدنى، وتنظيمات العمل)، حتى لأولئك الذين يتم التعاقد معهم عبر شركات خارجية (مثل خدمات التنظيف، والأمن، والضيافة، والطعام، وغيرها من الخدمات التي غالبًا ما تقدمها شركات مستقلة لا تلتزم بهذه القوانين).

يجب أن تتجنب القوانين أو الأطر التنظيمية:

١. أي تمييز في الخدمة بين المواطنين بناءً على التغطية الصحية، أو الظروف الاقتصادية، أو أوقات تقديم الخدمة، أو غيرها.

٢. أي أحكام قد تؤثر سلبًا على جودة الخدمة إذا تم تنفيذها.

٣. الاعتماد على تحديد حصص للعاملين في الرعاية الصحية (استنادًا إلى الجنسيات) لضمان العدالة في تقديم الخدمة أو التشغيل. يجب أن تكون المتطلبات عادلة لجميع العاملين، دون تمييز بينهم بناءً على نوع علاقتهم التعاقدية مع المنشأة.

٤. أي تحديد لحصصٍ من الأسرّة أو الخدمات لفئات مُعينة؛ يجب على المنشأة الالتزام بمعاملة جميع الأشخاص دون تمييز طالما أن الدولة تشتري الخدمة لهم وتقديم هذه الخدمات ضمن قائمة أسعار محددة بوضوح تشرف عليها الدولة.

٥. إعفاء المستثمر الخاص من الالتزام بتقديم خدمات الصحة العامة والخدمات الطارئة وتخصيص خدماته بالكامل لوزارة الصحة أثناء الطوارئ الصحية العامة أو الأوبئة.

يجب أن تنص القوانين أو الأطر التنظيمية بوضوح على:

١. الروابط والمواءمة مع نظام التأمين الصحي الشامل وكيف يُتوقع أن يُستخدم لتحقيق التوسع المطلوب فيه.

٢. آليات تحديد المنشآت التي سيتم عرضها للاستثمار الخاص والسلطة المسؤولة عن هذا التخطيط والأطر الحاكمة المرتبطة به. 

٣. إطار محدد لآلية شراء الخدمات من قبل الدولة للمستفيدين المنتسبين إلى أنظمة علاجية مختلفة (نظام التأمين الصحي الاجتماعي، التأمين الصحي الشامل، العلاج الممول من الدولة، والعلاج لمن لا يستطيع الدفع).

٤. كيفية التعامل مع الموظفين الحاليين في المنشآت الصحية وما هي الحقوق والالتزامات تجاههم من قبل المستثمر الخاص. 

٥.مسؤوليات القائمين على إدارة المنشأة فيما يتعلق بالتوثيق والتسجيل والتقارير وتبادل البيانات بشكل آمن.

و لقد غابت هذه المتطلبات الأساسية، التي دعت إليها الجهات الفاعلة في المجتمع المدني، عن جميع تصريحات صندوق النقد الدولي العلنية. لا يبدو أن صندوق النقد الدولي يُولي اهتمامًا كافيًا لحماية حق الصحة للمواطنين المصريين في سعيه لتعزيز ملكية القطاع الخاص للأصول العامة. وفي قطاع الرعاية الصحية تحديدًا، قد يتعارض دفعُه نحو تقليص دور الدولة في الاقتصاد مع ضمان حق الناس في الصحة. كما قد تُهدد هذه السياسة بعض الحمايات التنظيمية في قطاعات أخرى، مثل قوانين العمل. إنّ التحول السريع وغير المدروس نحو نمو القطاع الخاص قادرٌ على تقويض هذه الحمايات، ويُلقي بمسؤولية الحفاظ عليها على عاتق الدول التي تُعاني أصلًا من صعوبات مالية واقتصادية. وفي بيئة تفتقر إلى المساءلة والشفافية والمشاركة المدنية، قد يُؤدي ذلك بسهولة إلى انتهاك حقوق الناس الأساسية، بما في ذلك الحق في الصحة.

ما هي البدائل الممكنة والمسؤولة الأخرى التي يمكن السعي إليها لتحقيق نمو القطاع الخاص ومشاركته في قطاع الرعاية الصحية؟

بالإضافة إلى الضمانات الأساسية التي تم تقديمها سابقًا، يوفر قانون التأمين الصحي الشامل الجديد الذي يتم تنفيذه حاليًا مسارًا واضحًا ينص على مشاركة شاملة ومنهجية للقطاع الخاص تدعم نموه ومشاركته في قطاع الرعاية الصحية. في تقريرها التشخيصي للقطاع الخاص في البلاد، تشير مؤسسة التمويل الدولية (IFC) إلى أن “نظام التأمين الصحي الشامل (UHIS) من المتوقع أن يغير دور مقدمي خدمات الرعاية الصحية في القطاع الخاص.” سيتم ذلك من خلال سداد مستحقات مقدمي خدمات القطاع الخاص المتعاقدين من قبل نظام التأمين الصحي. “سيمكن هذا مقدمي الخدمات الخاصة من الوصول إلى المرضى ذوي الدخل المنخفض الذين لا يستطيعون تحمل تكلفة تقديم الرعاية الصحية الخاصة عالية الجودة من القطاع الخاص. ومع زيادة الطلب على الخدمات، سيكون هناك ضغط لرفع معايير الجودة السريرية، وتحسين تجربة المرضى، وتعزيز القيمة. سيكون مقدمو الخدمات مؤهلين فقط للانضمام إلى النظام إذا حققوا معايير الجودة التي تحددها الهيئة العامة للاعتماد والرقابة الصحية (GAHAR). ستعتمد التمويلات للمرافق العامة والخاصة التي تعمل تحت نظام التأمين الصحي الشامل على قدرتها في جذب المرضى الذين سيكونون أحرارًا في الاختيار بين المنشآت الثانوية والثالثية التي هي جزء من النظام. وهذا سيوفر لهذه المنشآت حافزًا للتنافس النشط على المرضى من خلال تقديم خدمات رعاية صحية عالية الجودة.”¹³ 

 لتلبية هذا الطلب، أمام القطاع الخاص مساحة كبيرة لتغطيتها. يحتاج إلى توسيع عروضه من الرعاية الصحية الميسورة التكلفة، الفعالة وعالية الجودة، ودعم تجهيز المنشآت الصحية بالتقنيات اللازمة، وتوفير المهنيين الصحيين المدربين والقادرين، وتعزيز الابتكار في الإدارة، واتخاذ القرارات المبنية على البيانات، والتفوق التشغيلي، والأهم من ذلك، تأسيس وتقديم خدمات جديدة في آلاف المنشآت الصحية الأولية المطلوبة، التي تؤدي الدور الأساسي لـ “حارس البوابة” للنظام، والتي بدونها لا يمكن للنظام أن يعمل. بالإضافة إلى ذلك، سيكون إنشاء عيادات تخصصية جديدة، ومراكز تشخيصية، ومستشفيات في جميع أنحاء البلاد نقطة دخول حاسمة، لا سيما خارج العاصمة.

لا تزال هناك حاجة ماسّة إلى تطوير مجالات خلق القيمة في الصحة الإلكترونية، وسلسلة التوريد، والموارد البشرية، والتشخيص، واتخاذ القرارات السريرية القائمة على الأدلة.

الخاتمة

وفي الختام، فإن عملية إصدار قانون إدارة وتأجير القطاع الخاص لمنشآت الرعاية الصحية العامة، الذي تمّ إقراره بسرعة في إطار برنامج صندوق النقد الدولي في مصر وتشجيعه لدور القطاع الخاص، لم تستوفِ أي درجة من درجات إشراك أصحاب المصلحة أو الحوار أو الشفافية. لا تزال هناك مجموعة من المتطلبات الدنيا التي يجب تلبيتها لضمان أن البرنامج المدعوم من صندوق النقد الدولي في مصر لا يؤدي إلى عيوب سلبية في الخدمات المقدمة للمرضى ذوي الموارد المحدودة ومقدمي الرعاية الصحية. يوفر الاتجاه الوطني، والالتزامات، والمؤسسات، والخطط تجاه تنفيذ نظام التأمين الصحي الشامل أرضية خصبة لتعزيز مشاركة القطاع الخاص ودوره في قطاع الرعاية الصحية ضمن استراتيجية وخطة مدروسة بعناية تكون مستدامة ومرتبة وتوفر العديد من الفرص لتوسيع نطاق القطاع الخاص ضمن بيئة محمية تضمن الحق في الصحة للجميع.

 

المراجع

  1. https://faolex.fao.org/docs/pdf/egy127542e.pdf 
  2. https://www.who.int/publications/i/item/declaration-of-alma-ata
  3. IMF, Frequently asked questions on Egypt and the IMF, accessed on August 3rd 2024, https://www.imf.org/en/Countries/EGY/Egypt-qandas
  4.  Ahram English, Egypt’s case to the IMF, accessed on August 3rd 2024, https://english.ahram.org.eg/News/522456.aspx 
  5. El Shorouk News, The Egyptian Parliament approves the new low for leasing and managing public healthcare facilities, May 20th, 2024, https://www.shorouknews.com/news/view.aspx?cdate=20052024&id=f2623c5e-956c-475d-be76-952190c6f51e 
  6. IMF, Frequently Asked Questions on Egypt and the IMF, last viewed on October 14th 2024, https://www.imf.org/en/Countries/EGY/Egypt-qandas#Q10 
  7.  The Egyptian Initiative for Personal Rights, Our case against the privatization of the health insurance authority, 2008,  https://eipr.org/sites/default/files/reports/pdf/HealthInsuranceCase2008_EIPR.pdf
  8.  WHO, People at the Centre of Health Care (Geneva: WHO, 2007), at V.
  9.  The IMF, Transparency and the IMF, https://www.imf.org/en/About/Factsheets/Sheets/2023/Transparency-at-the-imf
  10.  Public Finance, IMF programme’s transparency falls to lowest point in September, https://publicfinance.lk/en/topics/sri-lanka-met-40-imf-commitments-and-failed-10-by-end-sep-1697710187
  11.  HRW, IMF: Scant Transparency for Covid-19 Emergency Loans, 2021, https://www.hrw.org/news/2021/03/30/imf-scant-transparency-covid-19-emergency-loans
  12.  El Watan News, 11 conditions to allow the private sector to manage public hospitals, May 15th 2024, https://www.elwatannews.com/news/details/7329622#goog_rewarded 
  13.  IFC, Egypt Health Sector Deep Dive, November 2023, https://www.ifc.org/content/dam/ifc/doc/2023/egypt-private-sector-diagnostic-health-sector-deep-dive.pdf 

مراجع إضافية

  1. IMF, Frequently asked questions on Egypt and the IMF, accessed on August 3rd 2024, https://www.imf.org/en/Countries/EGY/Egypt-qandas
  2. Ahram English, Egypt’s case to the IMF, accessed on August 3rd 2024, https://english.ahram.org.eg/News/522456.aspx
  3. Mada, New legislation paves route for private sector to take over public hospitals, May 22nd, 2024, https://www.madamasr.com/en/2024/05/22/feature/economy/new-legislation-paves-route-for-private-sector-to-take-over-public-hospitals/
  4. Zawia 3, Privatization of Healthcare in Egypt: A Step Backward?, May 29th, 2024, https://zawia3.com/en/health-privatization/
  5. IMF, IMF Executive Board Completes the Third Review of the Extended Arrangement under the Extended Fund Facility for Egypt, July 29th, 2024, https://www.imf.org/en/News/Articles/2024/07/29/pr24293-egypt-imf-exec-board-completes-3rd-rev-extended-arr-eff
  6. Al Majalla, IMF reform demands leave Egyptians worried about healthcare, June 8th, 2024 https://en.majalla.com/node/318691/business-economy/imf-reform-demands-leave-egyptians-worried-about-healthcare
  7. El Shorouk News, The Egyptian Parliament approves the new low for leasing and managing public healthcare facilities, May 20th, 2024, https://www.shorouknews.com/news/view.aspx?cdate=20052024&id=f2623c5e-956c-475d-be76-952190c6f51e
  8. El Watan News, 11 conditions to allow the private sector to manage public hospitals, May 15th 2024, https://www.elwatannews.com/news/details/7329622#goog_rewarded
  9. IFC, Egypt Health Sector Deep Dive, November 2023, https://www.ifc.org/content/dam/ifc/doc/2023/egypt-private-sector-diagnostic-health-sector-deep-dive.pdf
  10. Capital News Egypt, The government issues the executive regulations for the law enabling management of public healthcare facilities by the private sector, August 2024, https://capitalnewseg.com/156795/
  11. El Arabeya, The Egyptian president signs the law for the privatization of public healthcare facilities, https://www.alarabiya.net/aswaq/egypt-economy/2024/06/24/%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A6%D9%8A%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%B1%D9%8A-%D9%8A%D8%B5%D8%AF%D9%91%D9%82-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D9%82%D8%A7%D9%86%D9%88%D9%86-%D8%AE%D8%B5%D8%AE%D8%B5%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D8%B4%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AD%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%83%D9%88%D9%85%D9%8A%D8%A9
  12. ECESR, The law for the privatization of healthcare: An investment in Egyptian’s lives or against their livelihood? May 2024, https://ecesr.org/806821/

إضغط هنا للوصول إلى PDF

Sharing is caring!