من القروض إلى الإخفاقات: لماذا تفشل استراتيجية صندوق النقد الدولي في مصر؟
بعد أكثر من عام ونصف من تنفيذ برنامج صندوق النقد الدولي، لا يزال الاقتصاد المصري يعاني من عدم الاستقرار، وضعف الصحة المالية، وارتفاع الدين. تراجع النمو الاقتصادي بشكل كبير، حيث تم تعديل التوقعات للسنة المالية 2023-2024 من 5.3% إلى 3% فقط. تهدد تدابير التقشف وزيادة أسعار الخدمات العامة بدفع ملايين المصريين إلى الفقر. في مارس 2024، عدّل صندوق النقد الدولي البرنامج لزيادة مبلغ القرض من ثلاثة إلى ثمانية مليارات دولار، إلى جانب مصادر تمويل أخرى.
يذكر البيان الصحفي الأخير لصندوق النقد الدولي وتقريره الذي صدر في 26 أغسطس 2024 أن جهود السلطات المصرية بدأت تؤتي ثمارها، حيث انخفض التضخم وتم القضاء على نقص العملات الأجنبية. ولكن الواقع يبدو مختلفًا تمامًا. لا تزال البيئة الإقليمية تشكل تحديات، كما أن القضايا الداخلية تتطلب تنفيذًا حاسمًا للإصلاحات. علاوة على ذلك، يحتاج صندوق النقد الدولي والسلطات المصرية إلى معالجة قضايا حيوية مثل سياسة الضرائب التصاعدية، واستراتيجية إدارة الدين المناسبة، وتوفير تدابير حماية اجتماعية كافية لضمان برنامج اقتصادي يراعي العدالة الاجتماعية.
أدى تركيز صندوق النقد الدولي على مرونة سعر الصرف إلى عدة تخفيضات في قيمة الجنيه المصري، مما أثر بشكل كبير على القوة الشرائية لمعظم المصريين وساهم في ضغوط تضخمية لا تُحتمل، خصوصًا على أسعار الغذاء والطاقة. تهدف إجراءات الخصخصة إلى تعزيز المنافسة، لكنها غالبًا ما تتجاهل الديناميات المعقدة بين الشركات المملوكة للجيش وقطاع الدولة، مما يؤدي إلى مبيعات أصول انتقائية وغامضة، وبالتالي زيادة تراكم رأس المال لدى النخب. وأخيرًا، تعاني استراتيجيات إدارة الدين من تأثيرات سلبية نتيجة ارتفاع مدفوعات الفائدة وازدياد نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، على الرغم من تحقيق فوائض أولية عبر إجراءات تقشف خفضت الإنفاق العام الضروري. تزيد رسوم صندوق النقد الدولي، التي تُفرض عندما يتجاوز الاقتراض 187.5% من حصة الدولة، بمقدار 2% سنويًا من تكاليف القرض على مصر، مما يزيد بشكل كبير من عبء الدين. إن معالجة هذه القضايا أمر حيوي من أجل خلق مستقبل اقتصادي أكثر إنصافًا واستدامة لمصر
مرونة سعر الصرف وتخفيض قيمة العملة – سياسة فاشلة
منذ موافقة صندوق النقد الدولي على ترتيب تسهيل الصندوق الممدد لمصر في ديسمبر 2022، كان التركيز على مرونة سعر الصرف وتخفيض قيمة الجنيه المصري له تأثيرات سلبية كبيرة. قامت الحكومة بتخفيض قيمة الجنيه عدة مرات بهدف تحسين القدرة التنافسية للصادرات وتصحيح اختلالات ميزان المدفوعات. ولكن هذه السياسة أدت إلى زيادة تكاليف خدمة الدين، حيث تطلبت الوفاء بالالتزامات الدولارية المزيد من العملة المحلية، مما أرهق المالية العامة وحول الموارد من الخدمات الأساسية والبرامج الاجتماعية
ارتفع التضخم بشكل حاد، حيث ارتفعت معدلاته من 21.9% في ديسمبر 2022 إلى 34% بحلول أوائل 2024، وارتفعت أسعار الغذاء بنسبة تجاوزت 300% لبعض السلع. أدى هذا التضخم الحاد إلى تآكل القوة الشرائية للمصريين العاديين، مما دفع الكثيرين إلى ما دون خط الفقر وزاد من تدهور مستويات المعيشة. وعلى الرغم من هذه النتائج السلبية، تأخر صندوق النقد الدولي في مراجعاته المقررة في عام 2023، مما زاد من زعزعة استقرار الاقتصاد.
علاوة على ذلك، انخفضت عائدات الدولار في مصر بشكل حاد في عام 2023، حيث تراجعت إيرادات الصادرات بشكل كبير وانخفضت تحويلات المغتربين بمقدار 10 مليارات دولار. أضعف هذا الانخفاض قدرة الحكومة على إدارة تداعيات تخفيض العملة، مما زاد من عدم الاستقرار الاقتصادي. فشلت توقعات صندوق النقد الدولي في أخذ هذه الانخفاضات والفجوات التمويلية المستمرة في الاعتبار، مما قوض الفوائد الاقتصادية الكلية المتوقعة من تخفيض العملة
أدت الاستراتيجية الفاشلة لصندوق النقد الدولي الهادفة إلى التصحيح الاقتصادي الكلي إلى نتائج سلبية بالنسبة لمصر. توضح زيادة تكاليف خدمة الدين، والتضخم الحاد، وتصاعد عدم الاستقرار الاقتصادي الحاجة إلى نهج اقتصادي أكثر حساسية للسياق الاجتماعي.
سياسة الخصخصة المضللة لصندوق النقد الدولي
يروج صندوق النقد الدولي للخصخصة كوسيلة لتحسين المنافسة الاقتصادية، ولكن هذا النهج غالبًا ما يضعف الشركات التابعة للقطاع العام، التي ينبغي أن تخضع لرقابة هيئات تنظيمية مثل الجهاز المركزي للمحاسبات. يفشل صندوق النقد الدولي في التمييز بوضوح بين الشركات العامة وتلك المملوكة للجيش. هذه الخصخصة الانتقائية تخلق بيئة غير متكافئة بسبب التصنيفات الغامضة، مما يقوض مصداقية العملية.
علاوة على ذلك، لا يقدم صندوق النقد الدولي توصيات محددة بشأن حصة الائتمان المقدم للقطاع الخاص من خلال النظام المصرفي. أدت زيادة أسعار الفائدة إلى تردد البنوك في تقديم القروض، مما خلق مناخًا ركوديًا. تتضمن وثيقة “سياسة ملكية الدولة” التي وضعتها الحكومة، كجزء من شروط صندوق النقد الدولي، بيع حصص في الشركات العامة للمستثمرين الاستراتيجيين أو من خلال عروض عامة في البورصة. لكن التنفيذ كان بطيئًا ومحدودًا.
يؤدي بيع الأصول للحصول على الدولار في ظل تدهور العملة المحلية إلى معالجة الفجوات المالية الفورية لكنه يخلق مشاكل طويلة الأجل. ستحتاج الأرباح إلى دفعها للملاك الجدد بالدولار، دون شروط تضمن إعادة الاستثمار في البلاد. يفتقر هذا النهج قصير النظر إلى استراتيجية صناعية أو أهداف تنموية، حيث يركز فقط على النمو والربحية دون توقعات واضحة.
غالبًا ما تؤدي شروط الخصخصة التي يفرضها صندوق النقد الدولي إلى نتائج سلبية، مثل تقويض الشركات العامة، وتأخير بيع الأصول المملوكة للجيش، والفشل في ضمان فوائد اقتصادية مستدامة. هناك حاجة إلى نهج أكثر تركيزًا على التنمية، مع وضع إرشادات واضحة للائتمان المقدم للقطاع الخاص وضمان الشفافية في عملية الخصخصة.
دفع مصر نحو الديون من خلال شروط صندوق النقد الدولي
إن شروط إدارة الديون التي يفرضها صندوق النقد الدولي، والتي تتطلب تدابير تقشفية وفائضًا أوليًا كبيرًا، لم تؤدِ إلى خفض فعّال للدين العام في مصر. على الرغم من الجهود المبذولة لتحقيق فائض أولي من خلال خفض الأجور الحقيقية والدعم، استمر العجز الإجمالي في التزايد. فقد ارتفعت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي من 80.9% في يونيو 2020 إلى 95.7% في يونيو 2023، مع استهلاك الفائض الأولي في سداد مدفوعات الفائدة المتزايدة على الديون المحلية والخارجية. تصاعدت مدفوعات الفائدة بشكل كبير، من 35.8% من إجمالي الإيرادات في 2020-2021 إلى ما يقرب من 69% في موازنة 2024-2025 الحالية، مما يترك مجالًا ضيقًا للخدمات العامة الأساسية والاستثمارات
لقد جعلت السياسات الاقتصادية المتبعة تحت توجيه صندوق النقد الدولي من إدارة الديون بشكل فعال أمرًا مستحيلًا. أدت الزيادة في أسعار الفائدة العالمية، والضغوط المتزايدة على الجنيه، وارتفاع أسعار الفائدة المحلية إلى تفاقم عبء الديون، مما جعل تحقيق هدف تقليص الدين أمرًا أكثر صعوبة. بينما يركز نهج صندوق النقد الدولي على الأهداف المالية الفورية، فإنه يغفل القضايا الهيكلية الأوسع التي تزيد من ضعف الاقتصاد المصري
هناك حاجة إلى استراتيجية أكثر دقة تركز على إدارة الديون بشكل مستدام ومعالجة الأسباب الجذرية لعدم الاستقرار المالي لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والنمو على المدى الطويل
التراجع الضريبي وضعف التنفيذ
تسعى التدابير الضريبية التي يفرضها صندوق النقد الدولي على مصر إلى زيادة الإيرادات الضريبية بنسبة 3% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2026-2027، تتضمن توسيع قاعدة ضريبة القيمة المضافة، وفرض ضرائب جديدة على الدخل والكربون، وفرض ضريبة اقتطاع على الصادرات من المناطق الحرة. على الرغم من هذه الأهداف، فإن التنفيذ يعاني من تأخيرات وتناقضات. تم سحب مشروع وثيقة السياسة الضريبية دون إعادة نشره، ولا تزال ضريبة الأرباح الرأسمالية غير مطبقة بسبب غياب اللوائح التنفيذية. كما أن الانتقال إلى نظام تسجيل عقاري إلكتروني لم يكتمل، مما يعقد عملية تحصيل ضريبة العقارات. وعلى الرغم من إقرار تعديلات ضريبة القيمة المضافة وإلغاء بعض الإعفاءات الضريبية، لا تزال الإعفاءات لمشروعات “الأمن القومي” قائمة. تسلط هذه التحديات الضوء على محدودية نهج صندوق النقد الدولي في السياسة الضريبية، الذي يتجاهل غالبًا التعقيدات العملية والاجتماعية والاقتصادية لصالح تحقيق أهداف الإيرادات.
إن تأكيد صندوق النقد الدولي بأن معيار الإصلاح الهيكلي المتعلق بنشر تقرير شامل عن الإنفاق الضريبي قد تحقق يتعرض للتقويض بسبب الثغرات الكبيرة في البيانات التي تم الإفصاح عنها. ينص المعيار بشكل صريح على الحاجة إلى تصنيفات مفصلة للإعفاءات والتخفيضات الضريبية، خصوصًا تلك المقدمة للمناطق الاقتصادية الحرة والشركات المملوكة للدولة والمؤسسات العسكرية والمشاريع المشتركة. ومع ذلك، يفتقر التقرير بشكل واضح إلى هذه التفاصيل الدقيقة، والتي تعتبر ضرورية لتقييم تأثير هذه الإعفاءات على الهيكل المالي لمصر وكفاءة السوق
من الناحية الاقتصادية، فإن استبعاد هذه التفاصيل لا يطمس فقط الإنفاق الضريبي الفعلي، بل يساهم أيضًا في تكريس عدم الكفاءة الذي يعوق المنافسة ويضعف القدرة على تعبئة الإيرادات. الإعفاءات الضريبية الممنوحة للجهات ذات النفوذ السياسي مثل المؤسسات العسكرية أو الشركات في المناطق الاقتصادية الخاصة يمكن أن تزيد من عدم الكفاءة التوزيعية عبر توجيه الموارد إلى قطاعات أقل إسهامًا في النمو، مما يضعف الإنتاجية الاقتصادية بشكل عام. علاوة على ذلك، تساهم هذه الإعفاءات في خلق نظام ضريبي رجعي، حيث تتحمل الفئات الأقل حظًا في المجتمع العبء بشكل غير متناسب، مما يقوض الهدف الأوسع لصندوق النقد الدولي المتمثل في تحقيق استقرار مالي عادل.
لهذا الأمر تداعيات أوسع على المستوى الاقتصادي الكلي. يؤدي الإنفاق الضريبي، عندما يُمنح بدون شفافية أو مبرر اقتصادي واضح، إلى تشويه إشارات السوق وتحفيز سوء تخصيص رأس المال. تتدفق الموارد نحو قطاعات أو جهات تستفيد ليس بسبب ميزة تنافسية بل بسبب المعاملة التفضيلية، مما يؤدي في النهاية إلى تهميش اللاعبين الأكثر ديناميكية وكفاءة في القطاع الخاص. بمرور الوقت، يؤدي ذلك إلى ترسيخ نقاط الضعف الهيكلية داخل الاقتصاد، مما يعيق الابتكار ونمو الإنتاجية، ويضعف في النهاية استدامة الاقتصاد على المدى الطويل.
إن غياب الشفافية في هذه الإعفاءات الضريبية يقيد أيضًا قدرة الحكومة على إجراء تخطيط مالي صحيح وتحسين قاعدة الإيرادات، خصوصًا في ظل بيئة تتطلب استدامة الديون العامة. من منظور المالية العامة، فإن هذه الامتيازات الضريبية الانتقائية تؤدي إلى تسرب كبير في الإيرادات. يمكن أن تُوجه الإيرادات المفقودة من هذه الإعفاءات التي تُمنح للقطاعات ذات النفوذ السياسي إلى الإنفاق الاجتماعي أو البنية التحتية أو تقليل العبء الضريبي على الفئات الأكثر هشاشة. إن استمرار استثناء الشركات المملوكة للجيش وغيرها من الكيانات من التقارير الشفافة حول الإنفاق الضريبي يشير أيضًا إلى وجود نظامين ماليين: أحدهما يفرض تدابير التقشف على عامة الناس بينما يحمي الجهات الفاعلة المميزة من المساهمة بنصيبها العادل. لا يتعارض هذا فقط مع مبادئ العدالة المالية، بل يزيد من التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية، مما يؤدي إلى تآكل الثقة العامة في عملية الإصلاح ومؤسسات الدولة.
إن تجاهل هذه التفاصيل الأساسية في التقرير يعزز بشكل غير مباشر نظامًا اقتصاديًا موازيًا يخدم المصالح الراسخة، ويعزز سلوكيات الريع، ويعوق التصحيحات اللازمة في السوق. إن نقص الشفافية والمساءلة لا ينتهك فقط روح المعيار الهيكلي، بل يثير أيضًا مخاوف جوهرية بشأن نزاهة ومصداقية أجندة الإصلاح نفسها. إن هذا الإغفال يحمي هذه الجهات الفاعلة القوية من الرقابة المالية، مما يسمح باستمرار الاختلالات الهيكلية مع إخفاء التكاليف الحقيقية التي يتحملها الاقتصاد بشكل عام. هذه التكاليف ليست فقط مالية؛ بل تشمل أيضًا ضعف تنمية القطاع الخاص، وانخفاض الثقة لدى المستثمرين، وتراجع الحيوية الاقتصادية، وكل ذلك يعوق آفاق مصر لتحقيق نمو مستدام وشامل.
الحماية الاجتماعية الهشة
قام صندوق النقد الدولي مرارًا بتحويل الأسئلة المتعلقة بالحماية الاجتماعية إلى البنك الدولي، الذي يتولى تصميم برامج شبكات الأمان الاجتماعي. ومع ذلك، يتجاهل هذا التحويل مسؤولية صندوق النقد نفسه في معالجة الآثار الاجتماعية لسياساته الاقتصادية. في الواقع، فشل هذا البرنامج الخاص بصندوق النقد الدولي ومراجعاته اللاحقة في تقديم أي مبادرات ذات مغزى للتصدي لارتفاع معدلات الفقر في مصر. يبرز هذا النهج مدى محدودية اهتمام الصندوق بقضايا الفقر، حيث لم يبذل أي جهد يذكر في قياس مستويات الفقر أو إجراء تقييمات حاسمة.
يبدو أن ما يسمى بالتدابير “الاجتماعية” في إطار البرنامج تقتصر على توسيع برامج تكافل وكرامة—وهي تحويلات نقدية مشروطة بدأت بدعم من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في يناير 2023. وعلى الرغم من أن صندوق النقد أشاد بالتزام الحكومة المصرية بتخصيص 153 مليار جنيه على الأقل للإنفاق الاجتماعي، فإن الاتفاقية افتقرت إلى معايير واضحة لاستهداف هذه الأموال بشكل فعال. رغم توسيع نطاق برامج تكافل وكرامة لتشمل خمسة ملايين أسرة، تآكلت القيمة الحقيقية لهذا الإنفاق بسبب تقلبات سعر الصرف، مما أدى إلى انخفاض كبير في قيمته بالدولار في موازنة 2024/2025. يشير هذا الانخفاض إلى تراجع الإنفاق الاجتماعي الحقيقي على البرامج الاجتماعية الرئيسية في مصر وانكماش عام في الدعم النقدي والعيني مقارنة بالسنة المالية السابقة.
ورغم أن صندوق النقد الدولي يبرز الإنفاق على الصحة والتعليم كأحد الجوانب المفيدة، إلا أن هذه المجالات لم تُدرج ضمن الشروط الهيكلية لصرف القروض، مما أدى إلى غياب الالتزام من جانب الحكومة المصرية في كل من البرامج الحالية والسابقة لصندوق النقد الدولي. لا يزال من غير الواضح كيف يمكن تعبئة تحصيل الإيرادات الضريبية لتعزيز تمويل شبكات الأمان الاجتماعي. ومن ثم، لا تزال مقاربة الصندوق للحماية الاجتماعية ضعيفة وفقًا للمراجعة الأخيرة.
بقلم حسين شعيتو